الثلاثاء، 18 فبراير 2020

الوصية الأخيرة



شدت على ردائها حين داعبتها نسمات الهواء الباردة وهي جالسة على ذلك المقعد الخشبي القديم أمام النيل ، فاليوم هو الذكرى الثانية للنصر
ذلك النصر الذي رغم فرحتها به الا انه حمل لها الكثير من الألم .. وحمل لها وصية شهيد
تجلس الان تستعيد ملامح تلك الفترة من حياتها وبرفقتها طفلها الصغير أحمد .. أحمد الوصية الأخيرة لذاك الغائب
كانت البلاد تعيش حالة من اليأس والألم جراء تلك النكسة التي ألمت بهم ، وكان أحمد بصفته أحد جنود جيش بلده منكسراً هو الأخر بسبب تلك الخسارة الفادحة التي راح ضحيتها دماء اخوانه واصدقاءه .. واحتلال تراب بلاده الغالي
في تلك الليلة جلس مع عُلا على ذاك المقعد الخشبي اللذي لطالما كان شاهداً على كل لقائتهما ولكن في تلك المرة كان شاهداً على دموعها تلك التي هطلت عليه حينما أخبرها أحمد بأنه مضطرٌ لتأجيل حفل زفافهما لضرورة تواجده مع باقي الجنود كي يثأروا لحقهم ويستردوا أرضهم تلك التي اغتصبها العدو على مرأى منهم
لم تكن تدري عُلا لما تبكي ؟
أتبكي حسرة على حال بلادها
أم تبكي ألماً على خطيبها الماثل أمامها منكسراً متألماً جراء تلك النكسة
أم تبكي خيبة احتلت حلمها الأكبر بأن يتوج ذاك الرباط المقدس حباً ترعرع في قلبيهما منذ الصغر
أم تبكي خوفاً من قلقٍ بدأ ينهش في فؤادها حين اخبرها احمد انه ذاهب إلى تلك الحرب مرة أخرى
تقابلا مرة أخرى وقت الرحيل
جموع احتشدوا ما بين قريب ورفيق وحتى جيران الشارع الذين قلما تحدثوا معه ،جميعهم أتوا مودعين لأحمد
ومن بين كل تلك الجموع أتت هي تجر قدميها باكية مشتتة كقطة تائهة تبحث عنه لتودعه وتخبره بأنها ستنتظره كي يعود لها مرة أخرى كي يحتفلا بزفافهما وبالنصر لبلادهما
احتضنها مودعاً ، واحتضن فيها حنان امه ذلك الذي فقده منذ التاسعه ، واحتضن فيها حباً دام خمسة عشر عاماً كانا فيها يكبران سويا ويكبرحلمها بأن يبقيا معاً دائماً
نظر أحمد لعلا نظرة أخيرة وقال لها : إن لم أعد وعاد لك النصر فعيديني ان يكون ابنك الأول هو أحمد كي يكون شاهداً على قصة لم تنتهي معك ولكنها توجت بالنصر لكِ ولمستقبله
ارتجفت علا من رأسها حتى أخمص قدميها عند سماعها فكرة فقدانه وهطلت دموعها بغزارة أكبر وقالت له سوف تسميه انت حين تعود
سأنتظرك ككل مرة .. سأنتظرك فلا تتأخر
كزهرة غاب عنها الماء بدت علا ف الأيام التالية لرحيل أحمد
أصبحت تمكث اغلب الوقت بجانب المذياع علها تسمع بياناً من الجيش يبشرهم بالنصر و يطمئن قلبها الذي أبى ان يفارقه القلق منذ رحيله
في ذلك الصباح صيحات الفرح ملأت الطرقات ، وشرائط الزينة الخضراء تقافزت بين الشرفات وابتهالات الفرح صعدت إلى السماء وعلت أصوات الجميع مرددين
الله أكبر ، الله أكبر
والجيش يبث بيانه بأن الأرض المحتلة قد عادت لهم مرة أخرى
وانتصر جيش بلادهم
وانقشعت غيمة النكسة واشرقت شمس النصر مرة أخرى
الجميع فرحون وعُلا تبكي فرحاً لنصر بلادها وقلقاً على خطيبها الغائب حتى الآن
ثلاثُ دقات على الباب كانت كفيلة لأن يفتحه والد عُلا ويتبادل مع الطارق بضع كلمات قبل يعلوا صوته بعبارة .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. ذهب فداءً لتراب بلاده
سمعتها علا من الداخل لتكتم شهقتها بيدها وتهرع باكية الى غرفتها
فقد عاد النصر دونه
عادت الأرض ودفع أحمد حياته ثمناً لها
بكته كثيراً يومها وظلت فرحتها بالنصر ناقصة دونه
احتسبته عند الله شهيداً وودعت حلمها بأن تحمل اسمه في يوم ما وعزمت على تحقيق وصيته الأخيرة لها
بعد بضعة أشهر ، فتحت علا عينيها بتثاقل
نظرت حولها متفحصة الوجوه التي تنظر إليها علها تجد ابتسامته الحانية من بينها بالرغم من مرور سنتين على ذلك اليوم الذي فقدته به إلا أنها لازلت تراه بين وجوه كل من حولها
هزت رأسها كي تستعيد بعضاً من تركيزها لترى أباها وأمها وبعضاً من صديقاتها واقفين حولها
وترى هاني أخو أحمد
هاني الذي تزوجها بناء على وصية أحمد السرية له .. فلم يكن أحمد يأمن أحد بعد وفاته على علا أكثر من شقيقه
هاني .. والد طفلها الذي يحمله بين ذراعيه وعيناه تتلألأ بالدموع
قبل رأسها ووضع طفلهما بين يديها
نظرت إليه بحب فهي تحمل قطعة منها وتحمل حلماً لطالما انتظرت ان يصبح واقعاً، همست له أهلا بك يا آخر ما وصى به الشهيد ، أهلاً بك يا أحمد
وبعد عدة أشهر أخرى .. استيقظت علا من نومها ، عازمة على الذهاب إلى النيل بالرغم من تميز الأجواء واجتماع العائلة في ذلك اليوم
ارتدت معطفها الأحمر الذي لطالما قال لها احمد انها تبدو بداخله (كالورد البلدي) بحديقة منزله
وضعت طفلها أحمد بعربته ونزلت إلى الشارع لترى الفرح يعلوا قسمات أوجه الجميع وعبارات النصر تزين الجدران وعناوين الصحف تعيد ذكرى ذلك اليوم وتمجد من جديد ذلك النصر العظيم
ومثل كل عام أبت فرحتها ان تكتمل
فذكرى النصر تلك تعيد لها ذكرى فقدان احمد
وصلت إلى النيل
جلست على المقعد الخشبي تنظر لمكان جلوسه
تمرر يديها لتمسح بلطف ذلك الغبار الذي اعتلى مكانه
تحدثه كما لو كان معها
بعفوية أشارت إلى طفلها وقالت بصوت غلفه البكاء فرحاً وألماً: ها هي وصيتك الأخيرة لي
ها هو الشاهد على حلم لم يكتمل بك
ها هو عهدي الأخير معك
ها هو أحمد يا أحمد
ابني وابن أخاك وحاملُ لواء اسم الشهيد
– انتهت –

بين دفتي كتاب

كان المقهى مُزدحماً بالكثير
هذا يجولُ بعينيهِ بين الفتيات
وذاك منشغلٌ بمراسلةِ إحداهُن على هاتِفه
وذا يضحكُ بسذاجةٍ مع أصدقائِه
ووقعت عينايَ عليه
كان هو يختلفُ عنهم
تُحيطُ به هالةُ قدسيةٍ جعلت نظري يتجهُ إليهِ دونَ مُقاومةٌ مني
ٌلقد كانت وسامتهُ عادية
ٌمظهرهُ بسيط
قليلُ الحديث
شِبهُ انطوائي
وبالرغمِ من ذلك أسرني منذُ النظرةِ الأولى
ٍوقعتُ في فتنتهِ ما إن رأيتُه بصحبةِ كتاب
نعم .. كتابٌ كان يُجالسُه كما لو كان بصُحبةِ صديقٍ عزيز
يُقلبُ صفحَاته بحذرٍ شديد يكادُ ان يكونَ حناناً مفرطًا
نعم
لقد كان سيدُ كل من في المقهى حينها
جعلني أطمئنُ بأن هُناكَ أحدٌ ما لازالَ شغوف بحملِ ومجالسةِ كتابه اثناء احتسائهِ لقهوته في مكانٍ عام
أطمأننتُ لكونِ ان يد السطحية والسذاجة لم تطالهُ بعد
وفجأةً رفع رأسه
وابتسم لي على حينِ غرة
اشحتُ بنظري بعيدًا عنه
لم أكن أعلم ان ابتسامتَهُ تلك سوف تكونُ قصةٌ لكتابٍ جديد
قصةٌ ستبدأُ وتنتهي بين دفتي كتاب
قصةُ ستُكتب وتُحفر في ذاكرتي قبل ان تُخلد على الورق
قصةٌ سيقرأها ذات يوم
في نفس المقهى
وعلى نفس المقعد
دونَ ان أكونَ أنا حاضرةٌ حِينها
ودونَ أن يعلمَ انهُ المعنيُ بِها

سبعة أشياء تجعلني أبتسم



التزامات ، مسؤوليات ، ضغوط ومهام تحيط بي من كل جانب .. تجعلُ رأسي دائماً مُثقلٌ بما يَشغلهُ ، وبالرغم من ذلك ومن وسط كل هذا الزحام أرى زهرة تبتسم لي ، وابتسامتها تلك تتسرب إلى ثغري شيئاً فشيئاً ، فلطالما كانت الأزهار سببٌ لابتسامات كثيرة تعبرني
وأيضاً تلك الابتسامات تراودني اثناء احتسائي لقهوتي .. تشاركني مذاق القهوة المميز الذي يجعلني بالرغم من مرارتها ابتسم
وغالباً ما يصاحب القهوة صديق دائم لي في حلي وترحالي وفي فراغي وانشغالي ، كتابي .. الذي قالوا عنه هو خير جليس .. وبالفعل هو خير رفيق لي والذي ما ألبث أن أراه يلوح لي وهو يبتسم حتى أبادله الابتسامة بمحبة وأدعوه ليجالسني وينقل لي ما حمل بين دفتيه
وكم أحب أن يكون مجلسنا هذا برفقة صديق آخر عزيز على فؤادي ، برفقة البحر ذاك الرفيق الذي لطالما استقبلني فاتحاً ذراعيه ، محتوياً روحي مربتاً على كتفي ، فأرنوا إليه مبتسمة باطمئنانِ من وجدت ملاذها أخيراً
وكما أن البحر يبث في روحي الاطمئنان والتفاؤل ، هناك أيضاً تلك الكلمات البهية التي تصلني من حين إلى آخر من صُحيباتي ، رسائلهم المفعمة بالإيجابية التي تنير لي دربي وتدفعني بحب وبنظرة مشرقة إلى كل ما هو قادم ، تلك الرسائل التي ما أن أراها تعلو شاشة هاتفي حتى ترفرف روحي وتعانق الابتسامة ثغري ويفيض قلبي بالامتنان لمُرسلتها
تلك الرسائل في حلاوتها تذكرني دائماً بمذاق الحلوى ، فكم أهوى الحلوى وكم أحب لمستها السحرية التي تدغدغني بها حين أتناولها، بالرغم من أنني أصبحت فتاة في ربيع العشرين إلا أنني ما زلت في حب الحلوى طفلة تضحك ببراءة حين يقدمها أحدهم لها
ودائماً وما تُحلي الحلوى صباحي ويحل محلها ليلاً قمري .. نعم قمري الذي أنا على موعدٍ معه في كل ليلة ، أسامره وأحادثه وأبعث معه برسائلي لمن فرقت بيننا تلك المسافات الشاسعة علها تصلهم يوماً حين يُطل عليهم ، قمري الذي ما إن يتسلل ضياءه بعبث من خلف ستائري حتى أشرعها مرحبة به وادعوه بابتسامة دافئة ليشاركني ليلي
فالقمر والبحر ومثلهم الكتاب ، كالقهوة والحلوى والأزهار ورسائل التفاؤل من رفيقات دربي .. جميعهم أصدقاء ابتسامتي